بسم الله الرحمن الرحيم
وفي السنة العاشرة حجّ صلى الله عليه وسلم بالناس وبعد رجوعه من الحجّ وفي شهر ربيع الأوّل بدأ به المرض بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ثمّ اشتدّ وجعه حتى انتقل إلى جوار ربه جل وعلا في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة.
روى البخاري أَنَّ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ: (( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ - يَشُكُّ عُمَرُ - فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ )). قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْعُلْبَةُ مِنَ الْخَشَبِ وَالرَّكْوَةُ مِنَ الْأَدَمِ.
حينما يحسّ الإنسان بقرب أجله يهتمّ بالوصية في أكثر الأشياء أهميّةً عنده والتي يتوقع أو يخاف إهمالها ممن بعده، وكذلك نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم الذي يشقّ عليه ما يشقّ على أمّته، والحريص على هدايتهم الرحيم الرؤوف بهم كما وصفه ربه، اهتمّ في أيّامه الأخيرة من حياته بتكرار الوصيّة بأمور عظيمة.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوصيّة فعمل أصحابه بها فكان كل واحد منهم لا يبيت إلا ووصيته عند رأسه، وقد أوصى صلى الله عليه وسلم عند موته بوصايا عظيمة وأشياء مهمّة كان يخشاها صلى الله عليه وسلم على أمّته، وقد وقع ما كان يخشاه صلى الله عليه وسلم فقد تهاون الناس بوصيّته، وبما كان نهى عنه حتى انتشر ذلك بين الناس وأصبح بعض طلبة العلم لا ينكرونها بسبب كثرتها وفشوّها، فإليك أخي الكريم طائفة من وصاياه صلى الله عليه وسلم فأَرْعِ لها سمعك رعاك والله وحفظك وافتح لها قلبك فتح الله عليك أبواب الخير.
أولاً: نهى عن اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد على القبور، ونظراً لخطر هذا الأمر نبّه عليه صلى الله عليه وسلم وهو في حالة الموت، ولا يتمسّك شخص بأن قبره وقبر صاحبيه في المسجد فإن هذا ما فعله صلى الله عليه وسلم، ولا خلفاؤه الراشدون الذين قال صلى الله عليه وسلم عنهم: (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )) ولا يلتفت إلى عمل الناس مع نهيه صلى الله عليه وسلم فهو الواجب طاعته واتباعه.
استمع أخي الكريم إلى أمّنا عايشة وهي تحدّثك عن نبيّك في حال وفاته فتقول: كما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: (( لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا قَالَتْ: وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا )).
ولاحظ أخي الفاضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الأمر في حال مرضه وأمام جمع الناس فيروي لنا الإمام مسلم عن جندب قَالَ: (( سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ )).
ثانياً: بيّن للناس منـزلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأنه لا يوازيه أحد من صحابته في منـزلته كائناً من كان، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ ))(1).
وروى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: (( مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَعَادَتْ فَقَالَ: مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم )).
وروى البخاري عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ: (( أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ وَظَنَّ أَنَّ صلى الله عليه وسلم خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ )).
ثالثاً: أوصى بالصلاة، ولعظم شأن الصلاة تجد أخي الكريم حبيبك صلى الله عليه وسلم يأمرك بها حتى في حال غرغرة الروح، في الوقت الذي ينسى فيها الإنسان نفسه من شدّة سكرات الموت فإن نبيّنا صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة العظيمة الحرجة يؤكّد شأن الصلاة ومنـزلتها وعظم شأنها.
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ ))(2).
ولهذا رتّب على الصلاة ما لم يرتّب على غيرها فجعلت هي الفاصل بين الكفر والإسلام، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ))(3).
وقال أيضا: (( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ))(4).
وقال عبد الله بن شقيق: (( كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ))(5).
ولكي تتصوّر أخي الكريم الحكمة من هذه الوصيّة تأمّل في حال المسلمين، كم نسبة الذين يصلّون منهم، وكم نسبة الذين يحافظون على الصلاة في وقتها من بين المصلين؟ وكم نسبة الذين يؤدّونها جماعة في المساجد من هؤلاء؟ وكم نسبة الذين يحافظون على آدابها وخشوعها!؟.
رابعاً: النهي عن الاختلاف والتشاجر بين المسلمين فقد أمر جريراً أن يستنصت الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ))(6).
ولتصوّر الحكمة من هذه الوصية تأمّل تاريخ المسلمين وحاضرهم وإلى أيّ مدى خالفوا هذه الوصيّة.
(1) رواه البخاري.
(2) رواه ابن ماجة.
(3) رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه.
(4) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.
(5) رواه الترمذي.
(6) رواه البخاري ومسلم.